أخيراً دفع إسقاط الرحلة 17 للخطوط الجوية الماليزية الولايات المتحدة وأوروبا إلى أن تتفقا على فرض عقوبات أخرى على روسيا. ولكن طرق عمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجاه أوكرانيا ستظل على الأرجح أكثر تأثراً بالحسابات السياسية الداخلية من تأثرها بالضغوط الخارجية. ومع الأخذ في الاعتبار مدى أهمية الفوز، أو على الأقل عدم خسارة الحرب بالوكالة في أوكرانيا بالنسبة لشعبية ومشروعية حكومة بوتين، فمن غير المحتمل أن تؤثر العقوبات كثيراً على المدى القصير. ومن المحتمل أن تؤدي العقوبات إلى حسم أكبر من جانب بوتين لجهة دعم الانفصاليين في أوكرانيا. فالحرب هناك أفادته محلياً. وبعد إمضائه 14 عاماً في السلطة سواء، كرئيس أو كرئيس وزراء، وقع بوتين في نهاية عام 2013 في ورطة، ووصلت شعبيته والثقة فيه إلى أدنى مستوى لهما. ولعل الأكثر إزعاجاً للكرملين أن نصف الروس على الأقل ما كانوا ليريدوا إعادة انتخابه رئيساً في عام 2018. ولكن اليوم على رغم الركود الاقتصادي الذي قد يؤدي بسهولة إلى كساد واسع إلا أن شعبية بوتين صعدت إلى السماء ثانية، ويبدو أنه يضع القواعد ليظل في الرئاسة مدى الحياة إما عبر الانتخابات أو بغيرها. وبدعم من آلة الدولة الدعائية الهائلة التي تحتفي بضم القرم وتدعم الصراع الحالي في جنوب شرق أوكرانيا، يعيش الروس فيما يبدو حالة من الانتشاء بفكرة «حماية بني جلدتنا» من المجلس العسكري النازي الحاكم في كييف. وفي الوقت تقبل الروس التصور الذي صنعته الدعاية عن «مكائد حلف شمال الأطلسي»، واعتقدوا أن بوتين هو أكثر الرجال قدرة على الدفاع عن روسيا الأم في وجه ذلك الحلف. وربما يعلم بوتين قريباً أن الدعاية لها أيضاً جانب سلبي. فالروس الذين يتبنون فكرة أن بلادهم تقف إلى جانب الموقف السليم في الصراع لا يريدون أن يتقهقر بوتين لا مادياً ولا خطابياً. ويعلم بوتين جيداً تاريخ رجل قوي آخر هو الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش الذي ارتفع عالياً محمولاً على قمم أمواج المشاعر القومية التي أججها هو نفسه، ثم وجد شعبه وقد انقلب عليه بعد أن أجبره حلف شمال الأطلسي على التخلي عن غزوه للبوسنة وكرواتيا. وبوتين مقتنع بأن التقهقر أو الهزيمة في أوكرانيا ليس خياراً وارداً. وفي محاولة لسحق ما يبدو أنه هجوم بري أوكراني ناجح لاستعادة السيادة على منطقة معقل الصناعة في البلاد فرضت روسيا فعلياً منطقة حظر طيران على جنوب شرق أوكرانيا. ومنذ منتصف يوليو، أسقط الانفصاليون أربع طائرات أوكرانية على الأقل منها ثلاث مقاتلات وطائرة شحن عسكري، بالإضافة إلى طائرة نقل الركاب الماليزية. وهناك من يزعم أن روسيا كثفت تحركات الرجال والعتاد الثقيل عبر الحدود. وإذا استمر الانفصاليون يفقدون الأرض على رغم كل هذه الجهود فلن يكون أمام بوتين إلا خياران. فقد يعلن أن أوكرانيا متورطة في «حرب مدنية بين الأشقاء» ويتذرع بهذا ليبرر تدخلاً عسكرياً روسياً لحماية «المدنيين الأبرياء». وفي هذه الحالة قد يستشهد بوتين بالسابقة الليبية ليؤكد على أن روسيا لم تتصرف إلا كما فعل الغرب في ليبيا عام 2011. وهذا الخيار لا يخلو من مخاطرة، بطبيعة الحال. إذ يحتمل أن يصمد الجيش الأوكراني في القتال وإذا بدأ عدد الضحايا الروس في التفاقم فإن الدعم الداخلي لبوتين قد يتقلص سريعاً. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نصف الروس تقريباً لا يريدون أن تغزو روسيا أراضي أوكرانيا. والخيار الثاني أمام بوتين هو الاستمرار في الترهيب بخوض الحرب ليدعو إلى وقف لإطلاق النار على الفور بعد «مفاوضات مباشرة» بين كييف ووكلاء روسيا في جنوب شرق البلاد. وفي مثل هذه الحالة، ربما يمارس الغرب ضغوطاً على أوكرانيا لوقف هجومها وللانخراط في محادثات. وحتى لو اتفقت الدول الأوروبية والولايات المتحدة على فرض عقوبات أشد على روسيا فإن الدول الغربية تود أن يستمر تدفق المال والنفط والغاز الروسي، ناهيك عن تفادي نشوب أول حرب بين الدول الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولا حاجة للقول إنه بتمكين الانفصاليين كي يظلوا مسيطرين على الأراضي الواقعة تحت أيديهم اليوم فإن التوصل إلى هدنة بإشراف روسي يمنح بوتين انتصاراً في الداخل والخارج معاً. وبوسعه أن يوقف الهجوم الأوكراني دون توريط قوات نظامية. وبالإضافة إلى هذا، فإذا استطال أمد المفاوضات فإن الوضع الاقتصادي في أوكرانيا سيضعف مما يقوض الدعم الذي يحظى به الرئيس الأوكراني المؤيد للغرب بيترو بوروشينكو الذي يمكن استبدال حكومته بحكومة أخرى أكثر تأييداً لروسيا. وعلى كل حال، فسيكون من الممكن خرق أي هدنة سريعاً بناء على أوامر من موسكو تماماً مثلما وقع في أحدث عمليات وقف إطلاق النار من الجانب الأوكراني وحده، في بداية شهر يوليو. وعلى رغم الإعلان عن فرض عقوبات الأسبوع الماضي فإن استراتيجية روسيا في أوكرانيا ستظل تتأثر بالحاجات السياسية الداخلية لحكومة بوتين. مما يعني مأزقاً مريراً طويل الأمد، في نهاية المطاف. ـ ـ ـ ـ ليون آرون مدير الدراسات الروسية في معهد «أميركان إنتربرايز» ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»